نعمة الانشغال- بلسم الروح وسعادة الحياة

المؤلف: عزيزة المانع08.11.2025
نعمة الانشغال- بلسم الروح وسعادة الحياة

يمنح الله سبحانه وتعالى الكثير من النعم لعباده، ولكن للأسف، نجد بعض الأشخاص غافلين عن هذه النعم الزاخرة ولا يقدرونها حق قدرها. كلما صادفتهم، تجدهم متذمرين وشاكين، وكأنهم أتعس بني البشر على وجه الأرض. يتحدثون بأسى عن الضيق الذي يلف قلوبهم، والقلق الذي يعصف بأرواحهم، والاكتئاب الذي يخيم على حياتهم. يعانون من فتور الهمة ويحملون مشاعر سلبية تجاه كل شيء يحيط بهم. والسبب الجوهري وراء هذا كله هو الفراغ القاتل الذي يعيشون فيه، فهم لا يجدون ما يشغل وقتهم ويفيدهم.

إن الفراغ والبطالة يجلبان الأمراض النفسية والجسدية، ويؤديان إلى الاكتئاب والشعور الدائم بالتعاسة والشقاء. فالانشغال بعمل مفيد، مهما كان نوعه وبساطته، هو نعمة عظيمة من نعم الله التي تستوجب الشكر والثناء الدائمين. يجب على الإنسان أن يحمد ربه عليها ويثمنها حق قدرها.

إن الانشغال في جوهره يمثل مفهومًا ساميًا، بصرف النظر عن طبيعة هذا الانشغال ومجالاته، يحمل في طياته فوائد جمة ومزايا عديدة. فلو أدرك الناس هذه الفوائد العظيمة، لأقبلوا على شغل أوقاتهم بحماس وشغف، حتى لو لم يكن للعامل المادي والاقتصادي أي دور في ذلك. فمن أبرز مزايا الانشغال أنه يمنح النفس شعورًا بالرضا والسكينة والطمأنينة، ويصيب الإنسان بهدوء الأعصاب وراحة البال. ذلك أن الانشغال يصرف الذهن عن التفكير العميق في المشكلات الشخصية والتحديات الخاصة، فيكون بذلك خير علاج لما يصادف الإنسان في مسيرة حياته من قلق واضطراب، أو حزن وشجن، أو خوف ووجل، أو اكتئاب وغير ذلك من الانفعالات السلبية المنهكة للطاقة والمسببة للشقاء والتعاسة.

كذلك فإن الانشغال بأمر ما، غالبًا ما يؤدي إلى الإنجاز والنجاح، وصفة الإنجاز أنه يورث نشوة عارمة ولذة فريدة تبعث السعادة والبهجة في القلب، إضافة إلى أن الانشغال يولد الأمل والتفاؤل في النفس اليائسة والروح القانطة. فالشخص الذي ينشغل بشيء ما، يظل دائمًا ينتظر ثمرة انشغاله بفارغ الصبر، مترقبًا اكتمال نضوجها وتحققها على أرض الواقع، فتكون تطلعاته وآماله نحو المستقبل مشوبة بالتفاؤل والأمل في انتظار القادم، مما قد يكون أجمل وأفضل.

وأيضًا من الخصائص الحميدة للانشغال أنه يدفع بصاحبه إلى تهذيب أخلاقه وتحسين سلوكياته، فالانغماس في العمل وتبعاته يبدد الرغبة الشديدة في إثارة الخلاف والجدل العقيم الذي لا طائل منه، ويجعل الإنسان أكثر تسامحًا وقدرة على التغاضي عن الصغائر وتجاهل الهفوات. فاهتمام الشخص بما يشغله من أعمال يمتص طاقته الذهنية ويستنفد قدراته الفكرية، فلا يترك لديه طاقة لخوض المشكلات والصراعات الجانبية.

بالإضافة إلى كل هذه الفوائد، فإن الانشغال يجهد البدن وينشط الدورة الدموية ويصيب الذهن بالإرهاق والتعب، مما يسهل عملية النوم العميق ويقضي على الأرق المزعج ويجعل للراحة البدنية طعمًا مختلفًا ولذة لا تضاهيها لذة أخرى. كما يصبح للحظات الترفيه والاستجمام معنى آخر وقيمة أكبر في حياة الإنسان.

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذه المزايا والفوائد الجمة، يظل الانشغال والعمل مثله مثل أي دواء آخر، لا بد عند تناوله من التقيد بالجرعة المحددة والكمية المطلوبة، فالإفراط في الانشغال يضر بصحة الإنسان تمامًا كالإفراط في تناول الدواء، والتفريط فيه وعدم الحصول على القدر الكافي منه يؤدي إلى نتائج سلبية وخيمة.

هناك بعض الأشخاص الذين يفرطون في الانغماس في العمل والوظيفة حتى ينسوا أنفسهم وعائلاتهم وأبناءهم، وربما قصروا في أداء واجباتهم الدينية والاجتماعية بسبب ضيق وقتهم وانشغالهم الدائم. وهناك بعض آخر على النقيض تمامًا منهم، لا يستطيعون شغل أوقاتهم بأكثر من بضع ساعات قليلة في اليوم، وفوق ذلك هم دائمو التذمر والشكوى من كثرة الانشغال وضغط العمل.

فما الذي يجعل بعض الناس يقبلون على العمل والوظيفة بإقبال شديد ويفرطون فيه إلى حد الإدمان، وبعضهم الآخر ينفر منه وينأى بنفسه عنه ويهرب منه بكل ما أوتي من قوة؟ هل للعوامل الوراثية والجينات الفطرية دور في ذلك، كأن يكون بعض الناس قد خلقوا مفطورين على حب العمل والاجتهاد، وبعضهم الآخر قد خلقوا مفطورين على الكسل والخمول؟ أم أن الأمر يرتبط بأسلوب التربية والتنشئة التي يتلقاها كلا الفريقين في مراحل حياتهما الأولى؟ أم أن هناك عوامل أخرى غير هذه العوامل تلعب دورًا في تحديد توجهات الأشخاص وميولهم؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة